فصل: مسألة للقاضي الفاضل العدل الحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة اكترى على طعام فقال الكري بعني هذا الطعام وافسخ الكراء:

قيل لأصبغ: أرأيت رجلا اكترى على طعام ليحمله إلى بلد فلما كال صاحب الطعام على الكري الطعام قال الكري: بعني هذا الطعام وافسخ الكراء فيما بيني وبينك، ففعل ذلك وباعه الطعام بكيله بنقد أو مؤخر. قال: إن كان الكراء كان بنقد ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على نقد فلا بأس به، وإن كان الكراء بتأخير فلا يجوز لأنه بمنزلة من باع عوضا معجلا ودينا له مؤخرا بذهب معجلة أو مؤخرة، فللعرضين من الدنانير حصة، وللدنانير من العرضين حصة، فصار ما أصاب العرض المؤخر وهي الحمولة إلى دنانير مؤخرة إلى أن يقبضها، فصار كالئا بكالئ، وإن كان الكراء كان نقدا وانتقد فهو زيادة في السلف فلا خير فيه، كان البيع بنقد أو بتأخير؛ لأن ما يزيده من ثمن الطعام زيادة في نقد الكراء الذي قبضه وانتفع به ورده مع ثمن الطعام، وإن كان الثمن بتأثير فهو أشد، ويدخله ما فسرت لك.
قال محمد بن رشد: أما إذا كان الكراء بنقد ولم ينقد حتى باعه وفاسخه على نقد فلا إشكال في أن ذلك جائز على ما قال؛ لأن المكتري باع من الكري الحمولة التي له عليه وهي مؤجلة، والطعام الذي أعطاه بالدنانير التي أخذ منه في الطعام أو بالدنانير التي وجبت له قبله من الكراء حالة، فصار إلى أن باع طعاما مؤجلا وحمولة مؤجلة بدنانير معجلة، قبض بعضها من نفسه، وبعضها من الكري فجاز ذلك. وأما إذا كان الكراء بنقد وانتقد فلا إشكال في أن ذلك لا يجوز، كان الثمن نقدا أو مؤخرا؛ لأنه الزيادة في السلف؛ لأن المكتري إذا كان قد نقد الكري الكراء فباع منه الطعام على أن يقيله صار المكتري قد دفع إلى الكري دنانير وطعاما وأخذ منه دنانير أكثر من التي دفع إليه، بعضها قضاء للدنانير التي دفع إليه، وبعضها ثمن للطعام، فدخله البيع والسلف، كان ثمن الطعام نقدا أو مؤجلا ويدخله في المؤجل مع البيع والسلف الدين في الدين على مذهبه، ولذلك قال: فهو أشد. وأما إذا كان الكراء بتأخير يعرف أو شرط، فقوله إن ذلك لا يجوز يأتي على القول بأن انحلال الذمم بمنزلة انعقادها في مراعاة آجالها، وذلك أن المكتري باع الحمولة التي له وهي مؤجلة، والطعام المؤجل بالكراء الذي عليه وهو مؤجل، وبالثمن الذي قبضه بالطعام فيدخله الدين بالدين. وأما على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها لا يراعى فيها الآجال لأن الذمم تبرأ ولا يكون لواحد منهما قبل صاحبه شيء، فيجوز ذلك؛ لأنه بفسخ هذه الإقالة تسقط الحمولة عن المكري، والكراء عن المكتري وتبرأ ذمتهما، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء يطلبه به إلى أجل فتكون دينا بدين، وهذا أظهر القولين. وقد اختلف في ذلك قول ابن القاسم وابن حبيب، وقد بينا هذا المعنى في غير ما موضع، ومن ذلك ما ذكرناه في رسم القبلة من سماع ابن القاسم كتاب السلم والآجال فقف على ذلك وبالله التوفيق.

.مسألة التنازع بين المتكاريين في تعيين الحمل:

قال إسماعيل الغافقي: نزلت بقوم من أهل طرابلس مسألة تشاجروا فيها، وذلك في رجل اكترى من رجل على حمل بعينه يحمله له من طرابلس إلى مصر فأخطأ الجمال فأخذ غير الحمل الذي اكتري عليه فحمله إلى مصر فلما أتوا مصر عثر على ذلك من أمره وتنازعوا في ذلك، وكان فتيان القائم بأمورهم، والسائل عن مسألتهم، فسئل عن ذلك أشهب، فقال: أما الحمل الأول الذي اكتري الجمال على حمله فأرى على الجمال حملانه إلى مصر يرجع إليه صاغرا فيحمله كما اشترط عليه وليس خطؤه بالذي يضع عنه حملانه، وأما هذا الحمل الذي أخطأه الجمال فأرى صاحبه مخيرا إن أحب أن يأخذه بمصر بلا غرم عليه من كرائه كان ذلك له، وإن أحب أن يضمنه بمصر قيمته بطرابلس فعل وأخذه بالقيمة، وليس للجمال في ذلك قول إن قال: أنا أرد الحمل إلى طرابلس، وليس لصاحب الحمل أن يلزم الحمال حملان الحمل ورده إلى اطرابلس، وإنما له الخيار فيما وصفنا قال: وسئل ابن وهب وابن القاسم عن ذلك فاجتمعا جميعا على أن صاحبه مخير إن أحب أن يغرمه بمصر قيمة الحمل باطرابلس كان ذلك له ولم يكن للجمال في ذلك قول، وإن أحب أن يأخذ الحمل بمصر لم يكن له بد من أن يغرم كراءه للجمال؛ لأن قيمته وجبت عليه ساعة أخطأ. قال: واجتمعوا كلهم: ابن القاسم وابن وهب وأشهب على أنه ضامن لقيمته قد وجبت عليه لصاحب الحمل، قالوا: والقيمة اللازمة عليه قيمة الحمل بالموضع الذي أخطأ به، وليس بالموضع الذي حمله إليه. وسئل عنها مطرف فقال: صاحب الحمل مخير إن شاء ضمنه قيمة الحمل يوم أخطأ به، وإن شاء أخذ الحمل وغرم كراءه للحمال، وليس للحمال أن يقول: أنا أرده للموضع الذي حملته منه؛ لأن القيمة قد لزمته، وليس لصاحب الحمل بد من غرم الكراء إن رضي بأخذ الحمل، وأخذ قيمته بالموضع الذي حمله منه. مثل قول ابن القاسم.
قال محمد بن رشد: إنما خالف أشهب ابن القاسم وابن وهب ومطرفا في هذه المسألة في موضع واحد، وهو إذا أراد صاحب الحمل أن يأخذ حمله بمصر، فقال أشهب: يأخذه ولا كراء عليه فيه إذ لم يكره عليه، وقال ابن القاسم وابن وهب ومطرف: ليس له أن يأخذه إلا أن يغرم كراءه؛ لأنه لما ترك أن يضمنه قيمته باطرابلس، واختار أخذه بمصر، فكأنه قد أذن له في حمله إليها، وحكى ابن حبيب عن أصبغ في ذلك قولا ثالثا قد ذكرته في سماع أبي زيد من كتاب كراء والأرضين، واتفقوا كلهم أن على الجمال أن يرجع فيحمل الذي تكوري على حمله، ولا اختلاف أيضا بينهم أنه ليس للحمال أن يقول أنا أرد الحمل الذي أخطأت فيه إلى اطرابلس، وإنما لم يكن ذلك له؛ لأن الحكم قد تعين عليه بالقيمة، فلا يلزم أن يؤخر ما يوجبه الحكم من ذلك بما يدعو إليه، ولو بادر فرد الحمل إلى اطرابلس قبل أن يقدم عليه صاحبه لم يكن له إلا أن يأخذ حمله؛ لأن المعنى الذي من أجله كان يلزم القيمة فيه قد ذهب، كما لو غصب الحمل فحمله إلى بلد آخر ثم رده إلى موضعه، لم يجب للمغصوب منه إلا أخذ حمله؛ لأنه بحاله، وكما لو غصب رجل عبدا فحدث به عيب ثم ذهب العيب لسقطت القيمة عن الغاصب، ولم يجب للمغصوب منه إلا أخذ عبده، وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب كراء الدور والأرضين في هذه المسألة ما فيه زيادة بيان وبالله التوفيق.

.مسألة هلاك الدابة بعد بلوغها موضع الكراء:

وقال مطرف: من تكارى دابة من مصر إلى مكة فلما بلغ المدينة هلكت الدابة، وقال المكتري: اكتريت منك هذه الدابة بعينها وقد انقضى الكراء بيني وبينك لموتها فاردد علي من الكراء بقدر ما قصرت الدابة عنه، وقال صاحب الدابة: لا أرد عليك شيئا، وإنما لك علي أن أبلغك إلى مكة؛ لأني لم أكرك دابة بعينها، وإنما أكريتك كراء مضمونا علي وهذه دابة أخرى فاركبها، إن القول قول الراكب المكتري، وعلى صاحب الدابة أن يرد عليه بقدر ما قصرت عنه الدابة. ووجه الحجة في ذلك أن الكراء ينقطع بينهما بموت الدابة إذا اكتريت بعينها، فهذه الدابة لما هلكت فقد انقطع الكراء بينهما، ووجب للراكب من الكراء بقدر ما قصرت عنه الدابة، فإن قال صاحب الدابة: لم أكركها بعينها وإنما أكريتك كراء مضمونا علي، قلنا له: أنت مدع فيما تقول، فهات البينة على أن الأمر كما ذكرت، فأما الأمر عندنا فقد تبين لنا أن الكراء بينهما قد بطل. ألا ترى أن الراكب لو قال لصاحب الدابة: لم أكتر منك هذه الدابة بعينها ولكني أكتريت منك كراء مضمونا عليك أن تبلغني مكة، وقال صاحب الدابة: إنما أكريتك هذه الدابة بعينها وقد انقضى الكراء بيني وبينك، إن الراكب مدع فيما يقول إن ادعى هذا؛ لأن الكراء قد انفسخ بينهما لموت الدابة، فلما ادعى ركوبا مضمونا قلنا له: أنت مدع فيما تقول فهات البينة، والحجة أيضا في ذلك أن رجلا لو اكتري دابة ثم اختلفا فقال صاحبها: أكريتك هذه الدابة بعينها وهذه الدابة الأخرى، وقال المتكاري: بل إنما أكريت منك هذه الدابة وحدها لإحدى تينك الدابتين أنهما يتحالفان ويتفاسخان، فكذلك الذي أكرى دابته فلما هلكت قال: أكريتك كراء مضمونا إنما هو رجل قال: أكريتك تلك الدابة ودابة أخرى، وقال الآخر: بل أكريت منك تلك الدابة بعينها. فلابد من أن يتحالفا ويتفاسخا ويدل على هذه ويبين صوابها قول مالك في الذي اكترى من مصر إلى مكة، فلما بلغا المدينة اختلفا، فقال الجمال: لم أكرك إلا إلى المدينة. وقال الراكب: بل إلى مكة، فانظر في قول مالك فيها فإنك تستدل به على هذا القول ويتبين لك صوابه إن شاء الله وبه التوفيق.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال؛ لأن الدابة إذا ماتت فقال المكتري إنه اكترى كراء مضمونا صار مدعيا، على الكري ركوبا في ذمته والكري ينكره في ذلك، والأصل براءة الذمة، فوجب أن يكون القول قوله، لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر». فإن قال المكري لما هلكت الدابة: أكريتك كراء مضمونا وهذه دابة أخرى فاركبها صار مدعيا على المكتري في أن يلزمه ركوب دابة ينكر أن يكون اكتراها، فوجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه. ألا ترى أنهما إذا اختلفا قبل الركوب فادعى أحدهما كراء مضمونا، وادعي الثاني كراء دابة بعينها، وجب أن يتحالفا ويتفاسخا؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه، كان المكري هو الذي ادعى المضمون والمكتري هو الذي ادعى المعين، أو الكري هو الذي ادعى المعين والمكتري هو الذي ادعى المضمون، فيحلف كل واحد منهما على تكذيب صاحبه. فإذا ماتت الدابة التي ادعى أحدهما أن الكراء وقع عليها بعينها حلف الذي ادعى منهما أن الكراء كان مضمونا؛ لأنه هو المدعي عليه وحده، كان الكري أو المكتري، ولم يجب على الذي ادعى منهما أن الكراء وقع على الدابة المعينة يمين إذ قد ماتت الدابة فانفسخ الكراء فيها بموتها، وهذا بين لا إشكال فيه وبالله التوفيق، لا رب غيره ولا خير إلا خيره.

.كتاب الأقضية الأول:

.مسألة موت القاضي قبل بلوغ الكتاب إلى من أرسله له:

من سماع ابن القاسم من مالك من كتاب أوله حلف يرفعن أمرا إلى السلطان أخبرني محمد بن عمر قال: أخبرنا محمد بن أحمد العتبي عن سحنون عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن رجل يأتي بكتاب من والي مكة إلى والي المدينة مثل القاضي والأمير وما أشبهه فلا يصل إلى المدينة حتى يموت الذي كتب له الكتاب وقضى له بالحق، قال مالك: فأرى لصاحب المدينة أن ينفذ ذلك الكتاب، ويقضي له بما فيه، أرأيت لو أن قاضيا قضى لرجل ثم هلك لجاء آخر بعده أكان ينقض مم قضى ذلك؟.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة جارية على الأصول مثل ما في المدونة والواضحة وغيرهما لا اختلاف فيها ولا إشكال في معناها؛ لأنه لما كان الأصل أن القاضي ينفذ ما يثبت عنده من قضاء حكام البلاد وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا كما ينفذ ما ثبت عنده من قضاء الحاكم قبله ببلدة الميت أو المعزول، وجب أن تنفذ كتبهم وإن كانوا قد ماتوا أو عزلوا قبل وصول كتبهم إليه وقبل انفصالها عن ذلك البلاد، فيصل حكمه بحكمهم ويبنيه عليه، كما ينفذ ما ثبت عنده أنه مضى من عمل الحاكم قبله الميت أو المعزول فيصل حكمه بحكمه ويبنيه عليه، ولا يأمر الخصمين باستيناف الخصام عنده إن كان الشهود قد شهدوا عند الميت أو المعزول فأشهد على ذلك أو كتب به إلى حاكم بلد آخر ثم مات أو عزل، نظر الذي ولي بعده أو المكتوب إليه فيما شهدوا به، كما كان ينظر في ذلك الميت أو المعزول، ولم يأمر بإعادة الشهادة عنده، وإن كانوا قد شهدوا عنده قبلهم أعذر إلى المشهود عليه فيما شهدوا به دون أن ينظر في عدالتهم، وإن كانوا قد شهدوا عنده فأعذر في شهادتهم إلى المشهود عليه فعجز عن الدفع فيما أمضى الحكم عليه بها دون أن يستأنف الإعذار إليه مرة أخرى وهذا بين، إذ لا فرق إذا ثبت عند القاضي حق لرجل على رجل بين أن يشهد شهودا أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، بشهادة فلان وفلان فشهد أولئك الشهود بما أشهدهم به من ثبوت ذلك الحق عنده عند قاضي بلد آخر بعد موته أو عزله، وبين أن يكتب بذلك إلى قاضي بلد آخر، فلا يصل إليه الكتاب إلا بعد موته أو عزله، فيما يجب من إعمال الأمرين إذا كان الكتاب قد ثبت عنده بشهادة شاهدين أنه كتابه. قاله ابن القاسم وابن الماجشون، وقال أشهب: لا تجوز شهادتهما أنه كتابه حتى يشهدا أنه قد أشهدهما عليه، ولا يكتفي في ذلك بالشاهد الواحد، ولا بالشهادة على أن الكتاب بخط القاضي، ولا أن الختم ختمه. وهذا في الكتب التي تأتي من كورة إلى كورة، ومن مثل المدينة إلى مكة، ومثل مكة إلى المدينة. وأما إذا جاء من أعراض المدينة إلى قاضي المدينة كتاب بغير بينة فإنه يقبله بمعرفة الخط وبمعرفة الختم، وبالشاهد الواحد إذا لم يكن هو صاحب القضية، لقرب المسافة واستدراك ما يخشى من التعدي. قاله ابن حبيب في الواضحة، وقال ذلك أيضا ابن كنانة وابن نافع في الحقوق اليسيرة خلاف ظاهر قول ابن حبيب، وقد كان يعمل فيما مضى كتاب القاضي بمعرفة الخط والختم دون بينة حتى حدث ما حدث من اتهام الناس فأحدثت الشهادة على كتاب القاضي، قال في رسم الأقضية من سماع أشهب من كتاب الوصايا أول من أحدثه أمير المؤمنين وأهل بيته. وفي البخاري أن أول من سأل البينة على كتاب القاضي ابن أبي ليلى، وسوار بن عبد الله العنبري. والأصل في هذا أن قول القاضي مقبول فيما أخبر أنه ثبت عنده أو قضى به، ينفذ ما أشهد به من ذلك على نفسه ما دام قاضيا لم يعزل، فإذا كتب بذلك إلى قاض غيره وجب على المكتوب إليه أن ينفذه ويصل نظره به إذا كتب إليه بذلك؛ لأنه في كتابه إليه به في معنى المخبر لا في معنى الشاهد، ولو خاصم الرجل عند القاضي فكلفه إثبات الشيء من الأشياء فأتاه بكتاب قاض أنه قد ثبت عنده ذلك الشيء، أو أنه قد قضى له به لم يجز ذلك؛ لأنه هاهنا شاهد، وشهادته لا تجوز فيما حكم به إلا أن يشهد على حكمه به عنده شاهدان سواه وذلك بين من قول ابن القاسم وأصبغ في رسم محض القضاء من سماع أصبغ بعد هذا، وهو معنى ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون وابن وهب وأصبغ من أن القاضي لا يمكن المشهود له من أن يعدل شهوده عند قاضي بلد من البلدان، فيكتب إليه بعدالتهم، إلا أن يكتب هو إلى ذلك القاضي يسأله عنهم. وقد ذكر أيضا في أول ذلك الباب أن القاضي إذا كتب بعدالة شاهد من أهل عمله إلى القاضي الذي شهد عنده شاهد جاز، وإن كان المشهود له سأله ذلك فكتب له به ابتداء دون أن يكتب إليه القاضي الذي شهد عنده الشاهد يسأله عنه، وحكى ذلك أيضا عن مطرف وابن الماجشون وأصبغ وهو بعيد. وإذا كتب إليه يسأله عن الشاهد الذي شهد عنده اكتفى في جوابه إليه بمعرفة الخط دون الشهادة على الكتاب، قاله ابن حبيب في الواضحة، ما لم يكن فيما سأله عنه فكتبه إليه فيه قضية قاطعة، والقياس لا يكتفي في شيء من ذلك بمعرفة الخط إلا فيما قرب من أعراض المدينة على ما تقدم، وسيأتي من معنى هذه المسألة في آخر سماع عيسى وبالله التوفيق.

.مسألة الانتفاع بالمقابر التي اندرست:

وسئل عن فناء قوم كانوا يرمون فيه، وفيه عرض لهم، ثم إنهم غابوا عن ذلك فاتخذ مقبرة ثم جاءوا فقالوا: نريد أن نسوي هذه المقابر ونرمي على حال ما كنا نرمي فيه، قال مالك: أما ما قدم منها فأرى ذلك لهم، وأما كل شيء جديد فلا أحب لهم درس ذلك.
قال محمد بن رشد: أفنية الدور المتصلة بطريق المسلمين ليست بملك لأرباب الدور كالأملاك المحوزة التي لأربابها تحجيرها عن الناس لما للمسلمين من الارتفاق بها في مرورهم إذ ضاق الطريق عنهم بالأحمال وشبهها، إلا أنهم أحق بالانتفاع بها فيما يحتاجون إليه من الرمي وغيره، فمن حقهم إذا اتخذت مقبرة في مغيبهم أن يعودوا إلى الانتفاع بها بالرمي فيها إذا قدموا، إلا أنه يكره لهم درسها إذا كانت جددا مسنمة لم تدرس ولا عفت، لما جاء في درس القبور، روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لأن يمشي أحدكم على الرضف خير له من أن يمشي على قبر أخيه». وقال: «إن الميت يؤذيه في قبره ما يؤذيه في بيته».
وقال ابن أبي زيد: إنما كره درسها لأنها من الأفنية، ولو كانت من الأملاك المحوزة لم يكره ذلك، وكان لهم الانتفاع بظاهرها. وروي عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: واروا في بطنها وانتفعوا بظاهرها. قال الإمام: ولو كانت من الأملاك المحوزة فدفن فيها بغير إذنهم لكان من حقهم نبشهم منها وتحويلهم إلى مقابر المسلمين، وقد فعل ذلك بقتلى أحد لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد. روي عن جابر بن عبد الله قال: لما أراد معاوية إجراء العين التي إلى جانب أحد أمر مناديا فنادى في المدينة، من كان له قتيل فليخرج إليه ولينبشه وليحوله، قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم من قبورهم رطابا يبتسمون، يعني شهداء أحد وبالله التوفيق اللهم عونك يا معين.

.مسألة من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض:

ومن كتاب أوله حديث طلق بن حبيب:
وسئل مالك عن رجل كانت له شجرة في أرض رجل فسقطت فنبتت لها خلوف أتراها لصاحبها؟ قال: نعم، قيل له: أفترى لصاحبها أن يغرس مكانها شجرة أخرى؟ قال: نعم، أرى ذلك له.
قال محمد بن رشد: قوله: إن الخلوف التي نبتت من الشجرة التي سقطت لصاحب الشجرة صحيح، ومعناه إذا نبتت في موضع الشجرة؛ لأن من كانت له شجرة في أرض رجل فله موضعها من الأرض، وليس لقدر ذلك حد معروف مؤقت عند مالك، وهو بقدر ما يحتاج إليه الشجرة في شربها، وما «روي أن رجلين اختصما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حريم نخلة فقطع منها جريدة ثم ذرعها فإذا هي خمسة أذرع. قال أبو طوالة أحد رواه الحديث أو سبعة أذرع فجعلها حريمها»، معناه عند من أخذ بالحديث من أهل العلم في النخلة التي يغرسها الرجل في الموات الذي يجوز له استحياؤه، فيستحق بذلك منه القدر المذكور في الحديث، وهو ما تحتاج إليه النخلة من الأرض، وحمل الحديث على عمومه في الموات وغير الموات أولى والله أعلم. وأما إن نبت الخلوف خارجة عن قدر حق صاحب الشجرة من الأرض، فإن كان لصاحب الشجرة فيها منفعة ليغرسها في حقه كان له أن يقلعها، وإن لم تكن له فيها منفعة لغرسها لم يكن له أن يقلعها، وكانت لرب الأرض بقيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، أو باطلا بغير شيء إن لم تكن لها قيمة، إلا أن يكون إقرارها مضرا بأهل الشجرة فيكون له أن يقلعها على كل حال، إلا أن يشاء الذي ظهرت في أرضه أن يقطع العروق المتصلة بالشجرة حتى لا يضربها فيفعل ذلك ويعطيه قيمتها حطبا إن كانت لها قيمة، وهذا معنى قول ابن القاسم في رسم الثمرة من سماع عيسى من كتاب السداد والأنهار، وفي المجموعة. وقوله: إن له أن يغرس مكانها شجرة أخرى صحيح، ومعناه شجرة لا تكون أكثر انتشارا وأضر بالأرض من التي سقطت على ما قال في القسمة من المدونة وبالله التوفيق.

.مسألة رفض العبد المبعض السفر مع مالك نصفه:

وسئل مالك عن العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا فيريد الذي له فيه الرق أن يسافر به ويأبى الغلام ذلك، ويقول: تقطعني على عملي، قال: إن كان سفرا قريبا رأيت ذلك له، وإن كان سفرا بعيدا رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه إن خاف في ذلك أن يباع أو يركب بظلم يكون معه وثيقة له، وقد أشرت بذلك على قاض كان عندنا استشارني فيه فأمرته أن يكتب لهم بذلك كتابا وهو عثمان بن طلحة. قال سحنون: وسألت ابن القاسم عن قول مالك في العبد يكون نصفه حرا ونصفه مملوكا، قال: إذا أراد به سيده سفرا سافر به، فإن كان بعيدا كتب له كتابا لئلا يسترق. قلت: ولأي شيء ألزمه ذلك؟ قال: لأن مالكا يقول ويرى الحرية تبعا للرق وهذا عنده من الأصول.
قال محمد بن رشد: قوله: رأيت أن يكتب له بذلك القاضي كتابا يكون معه وثيقة له، كلام ليس على ظاهره؛ لأن العبد لا ينتفع في المكان الذي يذهب إليه بكتاب يكون بيده لا بينة عليه، إذ لا يحكم له بكتاب القاضي دون بينة تنقله إليه وتشهد عليه، فالمعنى في ذلك أن يكتب له الكتاب إلى قاضي البلد الذي يسافران إليه مع شاهدين ممن يسافر مع العبد، فيشهدهما على الكتاب وعلى عين العبد. وفي سماع أشهب عن مالك من كتاب الشركة، أن السيد إذا لم يكن مأمونا لم يكن له أن يخرج به، وإذا قضي له بالخروج به كانت عليه النفقة والكراء في سفره حتى يقر قراره في موضع يكون له فيه عمل ومكتسب، فتكون له أيام وللسيد أيام، وروى البرقي عن أشهب أنه ليس له أن يخرج به وإن كان مأمونا وكان العبد متعديا؛ لأنه ملك من نفسه ما يملك الشريك، فصار شريكا في نفسه، ولا ينكحه إلا برضاه كالشريك، وحكى ذلك أيضا عنه ابن المواز وابن حبيب، قال ابن حبيب: وأما لو أراد الانتقال به إلى قرية يسكنها فإن كانت من الحواضر فذلك له وإن كره العبد ففي سفره به إلى غير الانتقال ثلاثة أقوال: أحدها أنه ليس له أن يسافر به وإن كان مأمونا، وهو قول أشهب ومحض القياس. والثاني أن له أن يسافر به ويكتب له كتابا إن لم يكن مأمونا، وهو قول مالك في هذه الرواية. ووجه ما استدل به من أن الحرية تبع للرق، بدليل إجماعهم أن أحكامه أحكام الرق ما كانت فيه شعبة من الرق. والثالث أنه إذا كان مأمونا كان له أن يسافر به، وإن لم يكن مأمونا لم يكن له أن يسافر به، وهو قول مالك في رواية أشهب عنه استحسان على غير حقيقة قياس والله الموفق.

.مسألة معاقبة القاضي للخصم الألد:

ومن كتاب أوله تأخير صلاة العشاء في الحرس:
وسئل مالك عن الرجلين إذا اختصما وألد أحدهما بصاحبه فعرف ذلك القاضي منه أترى أن يعاقبه؟ قال: نعم إذا تبين ذلك منه ونهاه فأرى أن يعاقبه.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إذاية له وإضرار به، وواجب على الإمام أن يكف أذى بعض الناس بعضا ويعاقب عليه بما يؤديه إليه اجتهاده، ومثله في آخر أول رسم من سماع أشهب وفي سماع أصبغ وبالله التوفيق.

.مسألة للقاضي الفاضل العدل الحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه:

فقيل له: أرأيت الذي يتناول القاضي بالكلام فيقول: لقد ظلمني، فقال: إن ذلك يختلف ولم يجد فيه تفسيرا إلا أن وجه ما قال إذا أراد بذلك أذاه وكان القاضي من أهل الفضل أن يعاقبه، وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، إن للقاضي الفاضل العدل أن يحكم لنفسه بالعقوبة على من يتناوله بالقول وأذاه بأن نسبه إلى الجور والظلم مواجهة بحضرة أهل مجلسه، بخلاف ما شهد به عليه أنه أذاه به وهو غائب عنه؛ لأن ما واجهه به من ذلك هو من قبيل الإقرار، وله أن يحكم بالإقرار على من انتهك ماله فيعاقبه به ويتحول المال بإقراره، ولا يحكم بشيء من ذلك بالبينة. والأصل في ذلك قطع أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يد الأقطع الذي سرق عقد زوجته أسماء لما اعترف بسرقته، وإن كان في حديث الموطأ فاعترف به الأقطع أو شهد عليه على الشك فالصواب ما في غير الموطأ أنه اعترف من غير شك، إذ لو لم يعترف ويقر على نفسه لما قطعه بالبينة، كما لو كان المسروق له، إذ لا فرق بين كونه له أو لزوجته في هذا؛ لأن متاعها كمتاعه، والدليل على ذلك قول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لعبد الله بن عمرو الحضرمي لما جاء بغلامه، فقال: إن هذا سرق مرآة لامرأتي. فقال له: لا قطع عليه، خادمكم سرق متاعكم. ألا ترى أن الرجل لا يجوز له أن يشهد لزوجته كما لا يجوز أن يشهد لنفسه، فإذا كان يحكم بالإقرار في ماله كما يحكم به في مال غيره كان أحرى أن يحكم بالإقرار في عرضه كما يحكم به في عرض غيره، لما يتعلق في ذلك من الحق لله؛ لأن الاجتراء على القضاة والحكام بمثل هذا توهين لأمرهم، وداعية إلى الضعف عن استيفاء الحقائق في الأحكام، فالمعاقبة في مثل هذا أولى من التجافي عنه والعفو فيه، وهو دليل قوله: وما ترك ذلك حتى خاصم أهل الشرف في العقوبة في الإلداد، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة: إن العقوبة في هذا أولى من العفو فيه وبالله التوفيق.

.مسألة للقاضي أن يقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس:

وكان بين رجلين خصومة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريبا من المدينة في أرض لهما حتى ارتفع الشأن بينهما فركب عثمان في ذلك وكانت خصومتهما في زمن عثمان وركب معه رجال فلما ساروا قال رجل: إن عمر قد قضى فيها. فقال عثمان: لا أنظر في أمر قد قضى فيه عمر ورجع.
قال القاضي: وقعت هذه الحكاية في آخر الزكاة الأول من المدونة وفائدتها والذي فيها من الفقه أن القاضي يستحسن له أن يركب ويقف على الحقوق بنفسه وبمن معه من أهل العلم فيما التبس وأشكل، وقد يكون هذا كثيرا في الضرر وشبهه، ولو أمكنه أن يقف على جميع الأمور بنفسه لكان أحسن، ولكن هذا لا يمكنه فيستنيب من يوجهه مكانه لذلك في الحيازات وشبهها، والواحد في ذلك يجزئ كما قال في المدونة في الذي يرسله لتحليف المرأة، والاثنان أحسن. وإنما رجع عثمان وترك ذلك لأن المحكوم عليه كان يريد فسخ قضاء عمر فيه، وذلك ما لا يجوز. ففي الحديث من الفقه أن القاضي إذا بلغه أن قاضيا قضى في أمر لم يكن له أن ينظر فيه، وهذا ما لا اختلاف فيه إذا كان القاضي الذي قضى في ذلك الأمر عدلا، والذي قال ذلك لعثمان هو معاوية، وكانت الخصومة بين علي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله في ضفير بين ضيعتيهما كان علي يحب أن يثبت، وطلحة يحب أن يزال، فوكل علي عبد الله بن جعفر فتنازعا الخصومة في ذلك بين يدي عثمان وهو خليفة، فقال لهما: إذا كان غدا ركبت في الناس معكما حتى أقف على الضفير فأقضي فيه بينكما معاينة، فركب في المهاجرين والأنصار، وجاء معهم معاوية، فقال وهما يتنازعان الخصومة في الطريق: لو كان منكرا لأزاله عمر، فكان قوله سبب توجه الحكم لعبد الله على طلحة، فوقف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ والناس معه على الضفير فقال: يا هؤلاء أخبرونا أكان هذا أيام عمر؟ فقالوا: نعم، قال: فدعوه كما كان أيام عمر وانصرف. قال عبد الله: فجئت من فوري إلى علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقصصت عليه القصة حتى بلغت إلى كلام معاوية فضحك ثم قال: أتدري لما أعانك معاوية؟ قال: قلت: لا. قال: أعانك بالمنافسة، قم الآن إلى طلحة، فقل له: إن الضفير لك فاصنع به ما بدا لك، فأتيته فأخبرته فسر بذلك، ثم دعا بردائه ونعليه وقام معي حتى دخلنا على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فرحب به، وقال: الضفير لك أصنع به ما شئت، فقال: قد قبلت، وإنما جئت شاكرا ولي حاجة ولابد من قضائها، فقال له علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سل حتى أقضيها لك، فقال طلحة: أحب أن تقبل الضيعة مع من فيها من الغلمان والآلة والدواب، فقال علي: قد قبلت، ففرح طلحة وتعانقا وتفرقا. قال عبد الله: فوالله ما أدري أيهما أكرم في ذلك المجلس، أعلي إذ جاد بالضفيرة؟ أم طلحة إذ جاد بالضيعة بعد ضنه بمسقاة؟ روى الشعبي أنه قال: أول من جرى جريا أي وكل وكيلا من الصحابة علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وكل عبد الله بن جعفر، فقيل له: لم وكلت عبد الله بن جعفر وأنت سيد من سادات الناطقين؟ فقال: إن للخصومات فحما. قال عبد الله: فنازعني طلحة في ضفير كان بين ضيعة لعلي وضيعة لطلحة، ثم ساق بقية الحكاية وإن كان فيها بعض الخلاف لحكاية مالك، فالمعنى المقصود منها وهو استحسان ركوب القاضي فيما أشكل، ووجوب إمضاء أحكام من قبله لا خلاف فيه وبالله التوفيق.